{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)} [المائدة: 5/ 87- 88].نزلت الآيتان في حق جماعة أرادوا التشدّد في الدين والقيام بأعمال كثيرة بقصد مرضاة اللّه ودخول جناته، أخرج ابن جرير الطبري وغيره عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في رهط من الصحابة، منهم عثمان بن مظعون، وعلي بن أبي طالب، قالوا: نقطع مذاكيرنا، ونترك شهوات الدنيا، ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان، فبلغ ذلك النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم، فأرسل إليهم، فذكر لهم ذلك، فقالوا: نعم، فقال النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «لكني أصوم وأفطر، وأصلّي وأنام، وأنكح النساء، فمن أخذ بسنّتي فهو مني، ومن لم يأخذ بسنّتي فليس مني».والمعنى: يا أيها المؤمنون لا تحرّموا على أنفسكم ولا تمنعوها من الطيبات وهي المستلذات المستطابات للنفس، لما فيها من المنافع، بأن تتركوا التمتع بها تقرّبا إلى اللّه تعالى، ولا تقولوا: حرمنا على أنفسنا كذا وكذا، مما هو حلال لكم ومباح. لا تفعلوا هذا تنسّكا وزهدا وتقرّبا إلى اللّه، فإن اللّه لا يرضى عن ذلك، بل ينهى عنه، كما قال تعالى في آية أخرى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)} [البقرة: 2/ 172]. والرّزق: ما صح الانتفاع به.ولا تتجاوزوا حدود ما أحلّ اللّه لكم إلى ما حرّم عليكم من الخبائث، ومن الإسراف والتقتير، وكلا الأمرين اعتداء، وهما تجاوز الحلال الطيب إلى الحرام الخبيث، والإسراف في تناول المباح، كما قال اللّه تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 7/ 31].والتزام الوسط في الإنفاق دون إسراف ولا تقتير، ولا نهم مادي ولا ترفّع عن المادّيات والانشغال بالرّوحانيات هو الذي يحقق مبدأ وسطية الإسلام واعتداله.وسبب النّهي عن تجاوز الحدود الشرعية: أن اللّه يبغض كل أولئك الذين يتعدون حدود اللّه، وأن من تجاوز الحدّ الشرعي، هان عليه اقتراف جميع المنكرات والوقوع في المعاصي والسّيئات، فمن سرق مثلا تجرّأ على القتل والفتك والإرهاب ونشر الرعب في كل مكان، وسهل عليه ارتكاب جميع المحرّمات. ولذا حصّن الشّرع سلوك المسلم وصانه من الانحراف بقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطّلاق: 65/ 1]. وقوله سبحانه: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14)} [النّساء: 4/ 14].ثم وضع لنا القرآن الكريم قانون الانتفاع بالأشياء والأمور المعاشية المعتادة فقال: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} أي تناولوا الحلال الذي لا إثم فيه كالرّبا والرّشوة وأكل مال الآخرين بالباطل، فإنه إثم وفسوق، وكلوا الطيب غير المستقذر في نفسه كالميتة والدم، أو الطارئ كالفاسد المتغير بطول المدة، أو المذبوح لغير اللّه من الأصنام والأوثان. واتّقوا اللّه بالتزام أوامره واجتناب نواهيه في الأكل واللباس والنساء وغيرها، فلا تحرّموا ما أحلّ اللّه:ولا تحلّوا ما حرّم اللّه، ظنّا منكم أن هذا خير، فإن كل ما لم يشرعه اللّه هو شرّ لا خير فيه، وهو إما تشدّد في الدين من غير مسوّغ، أو تهاون وتقصير وتجاوز لشريعة اللّه. والأمر بالتقوى بعد بيان الحلال الطيب من المطاعم للإرشاد إلى أنه لا منافاة ولا تغاير بين الاستمتاع بطيبات الرزق وبين التقوى أو الوصول إلى أرقى درجات القرب المعنوي من اللّه تعالى والظفر برضوانه.كفارة اليمين:على المؤمن أن يحترم عهد اللّه وميثاقه، ويعظّم ذات اللّه وجلاله، فيبتعد عن كل مظاهر الإخلال بهيبة اللّه وقدسيّته، وإذا حلف بالله تعالى وجب عليه صون يمينه إذا كان الأمر المحلوف عليه قربة أو طاعة، وجاز له مخالفة مقتضى اليمين بل يجب إذا كان المحلوف عليه معصية، ولا مؤاخذة في الأيمان التي تجري عفوا على اللسان دون قصد اليمين، مثل: لا واللّه وبلى واللّه لتأكل أو تشرب أو تجلس أو تزورنا، وإنما المؤاخذة الشرعية على الأيمان المتعمدة التي يقصدها الحالف مريدا التزامها، فإذا ندم عليها، فإن الشّرع يسّر عليه الأمر، ورخّص له عند الحنث بيمينه إخراج ما يسمى بكفارة اليمين.قال اللّه تعالى: